الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
قلة الغيرة وكفاك ما قصه الله سبحانه وتعالى من خبر يوسف عليه السلام ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه وشهادة شاهد من أهلها عليها بما بيّن لزوجها منها السوء فلم يعاقبها على ذلك بسوى قوله: " وقال ابن عبد الحكم: وكان نساء أهل مصر حين غرق من غرق منهم مع فرعون ولم يبق إلا العبيد والأجراء لم يصبروا عن الرجال فطفقت المرأة تعتق عبدها وتتزوّجه. وتتزوّج الأخرى أجيرها وشرطن على الرجال أن لا يفعلوا شيئًا إلا بإذنهنّ فأجابوهنّ إلى ذلك. فكان أمر النساء على الرجال. فحدثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن نساء القبط على ذلك إلى اليوم إتباعًا لمن مضى منهم لا يبيع أحدهم ولا يشتري إلا قال: استأمر امرأتي. وقال: إن فرعون لما غرق ومعه أشراف مصر لم يبق من الرجال من يصلح للمملكة فعدّ الناس في مراتبهم بنت الملك ملكةً وبنت الوزير وزيرةً وبنت الوالي وبنت الحاكم على هذا الحكم وكذلك بنات القوّاد والأجناد فاستولت النساء على المملكة مدة سنين وتزوّجن بالعبيد واشترطن عليهم أن الحكم والتصرف لهنّ. فاستمرّ ذلك مدة من الزمان ولهذا صارت ألوان أهل مصر سمرًا من أجل أنهم أولاد العبيد السود الذين نكحوا نساء القبط بعد الغرق واستولدوهنّ. وأخبرني الأمير الفاضل الثقة ناصر الدين محمد بن محمد بن الغرابيلي الكري رحمه اللّه تعالى: أنه مذ سكن مصر يجد من نفسه رياضة في أخلاقه وترخصًا لأهله ولينًا ورقةً طبع من قلة الغيرة ومما لم نزل نسمعه دائمًا بين الناس إن شرب ماء النيل ينسي الغريب وطنه. ومن أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب فلا تجدهم يدّخرون عندهم زادًا كما هي عادة غيرهم من سكان البلدان بل يتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرةً وعشيًا. ومن أخلاقهم: الانهماك في الشهوات والإمعان من الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاة قال لي شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله تعالى: أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سأل كعب الأحبار عن طبائع البلدان وأخلاق سكانها فقال: إن اللّه تعالى لما خلق الأشياء - جعل كل شيء لشيء فقال العقل: أنا لاحق بالشام فقالت الفتنة: وأنا معك وقال الخصب: أنا لاحق بمصر فقال الذل: وأنا معك وقال الشقاء: أنا لاحق بالبادية فقالت الصحة: وأنا معك. ويقال: لما خلق اللّه الخلق خلق معهم عشرة أخلاق: الإيمان والحياء والنجدة والفتنة والكبر والنفاق والغنى والفقر والذل والشقاء فقال الإيمان: أنا لاحق باليمن فقال الحياء: وأنا معك. وقالت النجدة: أنا لاحقة بالشام فقالت الفتنة : وأنا معك. وقال الكبر: أنا لاحق بالعراق فقال النفاق: وأنا معك. وقال الغنى: أنا لاحق وعن ابن عباس رضي الله عنهما: المكر عشرة أجزاء. تسعة منها في القبط وواحد في سائر الناس. ويقال: أربعة لا تعرف في أربعة: السخاء في الروم والوفاء في الترك والشجاعة في القبط والعمر في الزنج.ووصف ابن العربية أهل مصر فقال: عبيد لمن كلب. أكيس الناس صغارًا وأجلهم كبارًا. وقال المسعودي: لما فتح عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر وغير ذلك كتب إلى حكيم من حكماء العصر: إنا لَناس عرب قد فتح اللّه علينا البلاد ونريد أن نتبوأ الأرض ونسكن البلاد والأمصار فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها وما تؤثره الترب والأهوية في سكانها. فكتب إليه: وأما أرض مصر فأرض قوراء غوراء ديار الفراعنة ومساكن الجبابرة ذمّها أكثر من مدحها هواؤها كدر وحرّها زائد وشرّها مائد تكدر الألوان والفطن وتركب الإحن وهي معدن الذهب والجوهر ومغارس الغلات. غير أنها تسمن الأبدان وتسودّ الإنسان وتنمو فيها الأعمار وفي أهلها مكر ورياء وخبث ودهاء وخديعة. وهي بلدة مكسب ليست بلدة مسكن لترادف فتنها واتصال شرورها. وقال عمر بن شبه: ذكر ابن عبيدة في كتاب أخبار البصرة عن كعب الأحبار: خير نساء على وجه الأرض: نساء أهل البصرة إلا ما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء قريش وشرّ نساء على وجه الأرض: نساء أهل مصر. وقال عبد اللّه بن عمرو: لما أهبط إبليس وضع قدمه بالبصرة وفرخ بمصر. وقال كعب الأحبار: ومصر أرض نجسة كالمرأة العاذل يطهرها النيل كل عام. وقال معاوية بن أبي سفيان: وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس وثلث يشبه الناس وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم الناس: فالعرب والثلث الذين يشبهون الناس: فالموالي والثلث الذين لا ناس: المسالمة يعني القبط. أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه في حديث المعراج: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قلت : ماذا يا جبريل قال: هذه سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات. وفي التوراة: وخلق فردوسًا في عدن وجعل الإنسان فيه وأخرج منه نهران فقسمهما أربعة أجزاء: جيحون المحيط بأرض حويلا وسيحون المحيط بأرض كوش وهو نيل مصر ودجلة الأخذ إلى العراق والفرات.وروى ابن عبد الحكم عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أنه قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر اللّه له كل نهر بين المشرق والمغرب فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمدّه فتمده الأنهار بمائها وفجر اللّه له الأرض عيونًا فأجرته إلى ما أراد اللّه عز وجل.فإذا انتهت جريته أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره. وعن يزيد بن أبي حبيب: أن معاوية بن أبي سفيان رضي اللّه عنه سأل كعب الأحبار: هل تجد لهذا النيل في كتاب اللّه خبرًا. قال: أي والذي فلق البحر لموسى إني لأجلده في كتاب اللّه إن اللّه يوحي إليه في كل عام مرّتين يوحي إليه عند جريته أن اللّه يأمرك أن تجري فيجري ما كتب اللّه له ثم يوحي إليه بعد ذلك يا نيل عد حميدًا. وعن كعب الأحبار أنه قال: أربعة أنهار من الجنة وضعها الله في الدنيا: النيل نهر العسل في الجنة والفرات نهر الخمر في الجنة وسيحان نهر الماء في الجنة وجيحان نهر اللبن في الجنة. وقال المسعودي: نهر النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار لأنه يرج من الجنة على ما ورد به خبر الشريعة. وقد قال: إن النيل إذا زاد غاضت له الأنهار والأعين والآبار وإذا غاض زادت فزيادته من غيضها وغيضه من زيادتها وليس في أنهار الدنيا نهر يسمى بحرًا غير نيل مصر لكبره واستبحاره. وقال ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث: وفي حديثه عليه السلام: " نهران مؤمنان ونهران كافران. أما المؤمنان: فالنيل والفرات وأما الكافران: فدجلة ونهر بلخ " إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه لأنهما يفيضان على الأرض ويسقيان الحرث والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين لأنهما لا يفيضان على الأرض ولا يسقيان إلا شيئًا قليلًا وذلك القليل بتعب ومؤنة فهذان في الخير والنفع كالمؤمنين وهذان في قلة الخير والنفع كالكافرين.
|